مَنْ راعَى رُوعِيَ ومَنْ أَهملَ تُركَ

لفتة الكبد في نصيحة الولد

مَنْ راعَى رُوعِيَ ومَنْ أَهملَ تُركَ

وانظرْ يا بُنيَّ إِلى نفسِكَ عندَ الحُدودِ1 ، فَتَلَمَّحْ كيفَ حِفْظُكَ لَهَا فإنهُ مَنْ راعَى رُوعِيَ ومَنْ أَهملَ تُركَ وإنِّي لأَذكرُ لكَ بعضَ أحوالِي لعلَّكَ تنظرُ إلى اجتهادِي وتسألُ الموفِّقَ لي، فإنَّ أكثرَ الإِنعامِ عليَّ لمْ يكنْ بِكسِبي وإنَّما هوَ مِنْ تدبيرِ اللطيفِ بي، فإنِّي أذكرُ نفسِي وليَ همةٌ عاليةٌ وأنا في المكتبِ ابنُ ستِ سنينَ وأنا قرينُ الصبيانِ الكبارِ قد رُزقْتُ عقلاً وافرًا في الصغرِ يزيدُ على عقلِ الشيوخِ فما أذكرُ أنِّي لعبْتُ في طريقٍ معَ الصبيانِ قطُّ ولا ضحكْتُ ضَحِكًا خارِجًا حتَّى أنِّي كنتُ وَلِي سبعُ سنينَ أوْ نحوُها أحضرُ رَحَبةَ2 الجامعِ فلا أتخيَّرُ حلقةَ مُشَعْبِذٍ3 بلْ أطلبُ المحدّثَ فيتحدثُ بالسِيَرِ فأحفظُ جميعَ ما أسمعُهُ وأذهبُ إلى البيتِ فأكتبُهُ ولقدْ وُفِّقَ لي شيخُنَا أبو الفضلِ ابنُ ناصرٍ رحمَهُ اللـهُ وكانَ يحملُنِي إلى الشيوخِ فأَسمعَنِي المُسندَ وغيرَهُ مِنَ الكتبِ الكبارِ وأنا لا أعلمُ ما يُرادُ مِنِّي وضَبَطَ لي مسموعاتِي إلى أنْ بلغْتُ فناولَنِي ثَبَتَهَا4 ولازمْتُهُ إلى أنْ تُوفِّيَ رحمهُ اللـهُ فنِلت بهِ معرفةَ الحديثِ والنقلِ ولقدْ كانَ الصبيانُ يَنـزلونَ إلى دجلةَ5 ويتفرَّجونَ على الجسرِ وأنا في زمنِ الصغرِ ءاخذُ جزءًا وأقعدُ حُجْزَةً6 مِنَ الناسِ إلى جانبِ الرَّقةِ7 فأتشاغلُ بالعلمِ. ثمَّ أُلهمْتُ الزهدَ فسردتُ8 الصومَ وتشاغلتُ بالتقللِ مِنَ الطعامِ وألزمْتُ نفسِي الصبرَ فاستمرتْ وشمَّرْتُ ولازمْتُ وعالجْتُ السهرَ ولمْ أقنعْ بفنٍّ منَ العلومِ بلْ كنتُ أسمعُ الفقهَ والوعْظَ والحديثَ وأتبعُ الزهادَ ثمَّ قرأتُ اللغةَ ولمْ أتركْ أحدًا مـمَّن يروِي ويعِظُ ولا غريبًا يقدَمُ9 إلا وأحضرُهُ وأتخيَّرُ الفضائلَ وكنتُ إذا عُرِضَ لي أمرانِ أُقدِّمُ في أغلبِ الأحوالِ حقَّ الحقِّ فأحسنَ تدبيري وتربيتِي، وأجرانِي على ما هوَ الأصلحُ لي ودفَعَ عني الأعداءَ والحسادَ ومنْ يكيدُني وهيَّأَ لي أسبابَ العلمِ وبعثَ إليَّ الكتبَ مِنْ حيثُ لا أَحتسبُ. ورزقَني الفهمَ وسرعةَ الحفظِ والخطِّ وجودةَ التصنيفِ ولم يُعْوِزْنِي شيئًا مِنَ الدنيا بَلْ ساقَ إليّ مِنَ الرِّزْقِ مقدارَ الكفايةِ وأَزْيدَ، ووضعَ لي مِنَ القبولِ في قلوبِ الخَلْقِ فوقَ الحدِّ وأوقعَ كلامِي في نفوسِهِمْ فلا يرتابونَ بصحتِهِ وقدْ أسلَمَ على يدَيَّ نحوٌ مِنْ مائتينِ مِنْ أهلِ الذمةِ ولقدْ تابَ في مجالسِي أكثرُ مِنْ مائةِ ألفٍ وقدْ قطعْتُ أكثرَ مِنْ عشرينَ ألفَ سالفٍ10 مما يتعاناهُ 11الجهالُ. ولقدْ كنتُ أدورُ على المشايخِ لِسماعِ الحديثِ فينقطعُ نفَسِي مِنَ العدْوِ لِئَلا أُسبقَ، وكنتُ أُصبحُ وليسَ لي مأكلٌ وأُمسي وليسَ لي مأكلٌ، ما أذلَّنِي الله لمخلوقٍ قطُّ ولكنَّه ساقَ رزْقِي لِصِيانةِ عِرْضي ولَو شرحْتُ أَحوالِي لَطالَ الشرحُ وها أنا قدْ ترَى ما ءالتْ حالي إليهِ وأنا أجمعُهُ لكَ في كلِمةٍ واحدةٍ وهيَ قولُهُ تعالَى:﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾.


---------------------------
1) أي حدود الشريعة. (قرئ)
2 ) رحبة الجامع أي ساحة الجامع، وجمعها: رَحَبٌ، ورَحَبَاتٌ. (قرئ)
3) مُشَعْبِذ: هو من اشتغل بالسحر والدجل والتنجيم ونحوها. (قرئ)
4) أي أدلتها وبراهينها أو أسانيدها. (قرئ)
5) نهر بغداد. (قرئ)
6) مبتعدًا. (قرئ)
7) رجل وَرّاق الذي يُوَرِّقُ ويكتب. (قرئ)
8) تابعت. (قرئ)
9) يأتي. (قرئ)
10) أراض مستوية . (قرئ)
11) قاساه. (قرئ)